كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويستأنس لهذه القصة بما ذكره الخطيب وغيره: من أن الواثق تاب من القول بخلق القرآن.
قال ابن كثير في البداية والنهاية: قال الخطيب: وكان ابن أبي داؤد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن: قال: ويقال إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته. فأخبرني عبد الله بن أبي الفتح، أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، حدثني حامد بن العباس، عن رجل عن المهتدي: أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن. وعلى كل حال فهذه القصة لم تزل مشهورة عند العلماء، صحيحة الاجتجاج فيها إلقام الخصم الحجر.
وحاصل هذه القصة التي ألقمَ بها الشيخ الذي كان مكبلًا بالقيود يراد قتله أحمد بن أبي دؤاد حجرًا، هو هذا الدليل العظيم الذي هو السبر والتقسيم: فكان الشيخ المذكور يقول لابن أبي دؤاد: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها لا تخلوا بالتقسيم الصحيح من أحد الأمرين: إما أن يكون النَّبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو غير عالمين بها ولا واسطة بين العلم وغيره. فلا قسم ثالث البتة. ثم إنه رجع بالسبر الصحيح إلى القسمين المذكورين فبين أن السبر الصحيح يظهر أن أحمد بن أبي دؤاد ليس كل تقدير من التقديرين.
أما على كون النَّبي صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بها هو وأصحابه، وتركوا الناس ولم يدعوهم إليها- فدعوة ابن أبي دؤاد إليها مخالفة لما كان عليه النَّبي واصحابه من عدم الدعوة لها، وكان يسعه ما وسعهم.
وأما على كون النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غير عالمين بها فلا يمكن لابن أبي دؤاد أن يدعي أنه عالم بها مع عدم علمهم بها. فظهر ضلاله على كل تقدير، ولذلك سقط من عين الواثق، وترك الواثق لذلك امتحان أهل العلم. فكان هذا الدليل العظيك أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة الكبرى. حتى أزالها الله بالكلية على يد المتوكل رحمه الله، وفي هذا منقبة تاريخية عظيمة لهذا الدليل المذكور.
ومن آثار هذا الدليل التاريخي- ما ذكره بعض المؤرخين: من أن عبد الله بن همام السلولي وشي به واشٍ إلى عبيد الله بن زياد. فأدخل ابن زياد الواشي في محل قريب من مجلسه، ثم نادى ابن همام السلولي وقال له: ما حملك على أن تقول في كذا وكذا..؟! فقال السلولي: اصلح الله الأمير! والله ما قلت شيئًا من ذلك!! فأخرج ابن زياد الواشي، وقال: هذا أخبرني أنك قلت ذلك. فسكت ابن همام هنية ثم قال مخاطبًا للواشي:
وأنت امرؤ ائتمنتك خاليًا ** فخنت وإما قلت قولان بلا علم

فأنت من الأمر الذي بيننا ** بمنزلة بين الخيانة والإثمِ

فقال ابن زياد: صدقت! وطرد الواشي. وحاصل هذين البيتين الَّين طرد بهما ابن زياد الواشي يتعرض للسولي بشوء بسببهما- هو هذا الدليل العظيم المذكور. فكأنه يقول له: لا يخلو قولك هذا من أحد أمرين: إما أن أكون ائتمنتك على سرٍّ فأفشيته. وإما أن تكون قلته علي كذبًا. ثم رجع بالسبر إلى القسمين المذكورين فبين أن الواشي مرتكب ما لا ينبغي على كل تقدير من التقديرين، لأنه إذا كان ائتمنه على سر فأفشاه فهو خائن له، وإن كان قال عليه ذلك كذبًا وافتراءً فالأمر واضح.
المسألة السادسة:
اعلم أن بين الدليل التاريخي العظيم يوضح غاية الإيضاح موقف المسلمين الطبيعي من الحضارة الغربية.
وبذلك الإيضاح التام يتميز النافع من الضار، والحسن من القبيح، والحق من الباطل. وذلك أن الاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار: أما النافع منها- فهو من الناحية المادية وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن ابينه. وما تضمنه من المنافع للإنسان أعظم مم كان يدخل تحت التصور، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حين أنه جسد حيواني. وأما الضار. فهو إهمالها بالكلية للناحية التب هي راس كل خيرن ولا خير البتة في الدنيا بدونها، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه. وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السَّماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة، ويرسم له الخطط الحكمية في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة، ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته. فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى، مفلسة إفلاسًا كليًا من الناحية الثانية. ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهمٍ، وهلاك مستأصل، كما هو شاهد الآن. وحل مشكلته لا يمكن البتة إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي الذي هو تشريع خالق السماوات والأرض، لأن من أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبدًا. والتقسيم الصحيح يحصر أوصاف المحل الذي هو الموقف من الحضارة الغربية في أربعة أقسام لا خامس لها، حصرًا عقليًا لا شك فيه.
الأول ترك الحضارة المذكورة نافعها وضارها.
الثاني أخذها كلها وضارها ونافعها.
الثالث أخذ ضارها وترك نافعها.
الرابع أخذ نافعها وترك ضارها. فنرجع بالسبر الصحيح إلى هذه الأقسام الأربعة، فنجد ثلاثةً منها باطلة بلا شك، وواحدًا صحيحًا بلا شك.
أما الثلاثة الباطلة: فالأول منها تركها كلها، ووجه بطلانه واضح، لأن عدم الاشتغال بالتقدم المادي يؤدي إلى الضعف الدائم، والتواكل والتكاسل، ويخالف الأمر السماوي في قوله جل وعلا: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] الآية.
لا يسلم الشرف الرفيع من الأَذى ** حتَّى يراق على جوانبهِ الدم

القسم الثاني من الأقسام الباطلة- أخذها، لأن ما فيها من الانحطاط الخلقي وضياع القيم الروحية والمثل العليا للإنسانية- أوضح من أن أبينه. ويكفي في ذلك ما فيها من التمرد على نظام السماء، وعدم طاعة خالق هذا الكون جل وعلا {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} [الشورى: 21]. والقسم الثَّالث من الأقسام الباطلة- هو أخذ الضار وترك النافع، ولا شك أن هذا لا يفعله من له اقل تميز. فتعينت صحة القسم الرابع بالتقسيم والسبر الصحيح، وهو أخذ النافع وترك الضار.
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل، فقد انتفع بحفر الخندق في غزوة الأحزاب، مع أن ذلك خطة عسكرية كانت للفرس، أخبره بها سلمان فأخذ بها.
ولم يمنعه من ذلك أن أصلها للكفار. وقد هم صلى الله عليه وسلم بأن يمنع وطء المراضع خوفًا على أولادهن، لأن العرب كانوا يظنون أن الغيلة (وهي وطء المراضع) تضعف ولدها وتضره، ومن ذلك قول الشاعر:
فوارس لم يغالوا في رضاع ** فتتبوا في أكفهم السيوف

فأخبرته صلى الله عليه وسلم فارس والروم بأنهم يفعلون ذلك ولا يضر اولادهم، فأخذ صلى الله عليه وسلم منهم تلك الخطة الطيبة، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من الكفار. وقد انتفع صلى الله عليه وسلم بدلالة أن الأُرقط الدؤلي له في سفر الهجرة على الطريق، مع أنه كافر.
فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة العربية- هو أن يتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية، ويحذورا مما جنته من التمر على خالق الكون جل وعلا فتصلح لهم الدنيا والآخرة. والمؤسف! أن أغلبهم يعكسون القضية، فيأخذون منها الانحطاط الخلقي، والانسلاخ من الدين، والتباعد من طاعة خالق الكون، ولا يحصلون على نتيجة مما فيها من النفع المادي فخسروا الدينا والآخرةن ذلك هو الخسران المبين.
وما أحسن الدين والدنيا إذا اجمعا ** وًاقبح الكفر واللإفلاس بالرجل

وقد قدمنا طرفًا نافعًا في كون الدين لا ينافي التقدم المادي في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقد عرف في تاريخ النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- أنهم كانوا يسعوم في التقدم في جميع الميادين مع المحافظة على طاعة خالق السموات والأرض جل وعلا.
وأظهر الأقوال عندي في معنى العهد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْدًا} أن المعنى: أم أعطاه اله عهداُ أنه سيفعل له ذلك، بدليل قوله تعالى في نظيره في سورة البقرة: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} [البقرة: 80]. وخير ما يفسر به القرآن القرآن. وقيل: العهد المذكور: العم الصالح. وقيل شهادة أن لا إله إلا الله.
قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمن: أنه سيكتب ما قاله ذلك الكفار افتراء عليه. من أنه يوم القيامة يؤتى مالًا وولدًا مع كفر بالله، وأ، ه يمتد له من العذاب مدًا. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدًّا}: أي يزيده عذابًا فوق عذاب. وقال الزمخشري في الكشاف: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدًّا} أي نطول له من العذاب ما يستأهله. ونعذبه بالنوع الذي يعذب به المستهزؤون. أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد، يقال: مده وأمده بمعنى.
وتدل عليه قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه {وتمد له} بالضم وأكد ذلك بالمصدر. وذلك من فرط غضب الله. نعوذ به من التعرض لما يستوجب غضبه اهـ.
وأصل المدد لغة: الزيادة، ويدل لذلك المعنى قول تعالى في أكابر الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} [النحل: 88]، وقوله في الأتباع والمتبوعين: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].
وقوله في هذه الآية: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي ما يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من مال وولد، أي نسلبه منه في لدنيا ما أعطيناه من المال والولد بإهلاكنا إياه. وقيل: نحرمه ما تمناه من المال والولد في الآخرة، ونجعله للمسلمين. ويدل للمعنى الأول قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم: 40]، وقوله: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوارثون} [الحجر: 23] كما تقدم إيضاحه في هذه السورة الكريمة.
وقوله: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} أي منفردًا لا مال له ولا ولد ولا خدم ولا غير ذلك، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94]، والآية، وقال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْدًا} [مريم: 95] كما تقدم إيضاحه.
فإن قيل: كيف عبر جل وعلا في هذه الآية الكريمنة بحرف التنفيس الدال على الاستقبال في قوله: {سنكتب ما يقول} مع أن ما يقوله الكافر يكتب بلا تأخير. بدليل قوله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]؟
فالجواب أنا لزمخشري في كشافه تعرض للجواب عن هذا السؤال بما نصه: قلت فيه جهان: أحدهما: سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله: على طريقة قول زائد بن صعصعة الالفقعسي:
إذ ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ** ولم تجدي من أن تقري لها بدا

أي تبين وعلى بالانتساب أني لست بان لئيمة. والثاني- أن المتوعّد يقول للجاني: سوف أنتقم منك. يعني أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزما ن واستأجر، فجردها هنا لمعنى الوعيد اه منه بلفظه. إلا أنا زدنا اسم قائل البيت وتكلمته.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه يكتب ما يقول هذا الكفار ذكر نحوه في مواضع متعددة من كتابه، كقوله تعالى: {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [يونس: 21]، وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، وقوله تعالى: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، وقوله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]. وقوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [آل عمران: 181]، وقوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 9-12] وقوله تعالى: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]. وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13-14]: إلى غير ذلك من الآيات.
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمةك أن الكفار المتقدم ذكرهم في قوله: {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72] اتخذوا من دون الله آلهة أي معبوداتٍ من أصنام وغيرها يعبدونها من دون الله، وانهم عبدوهم لأجل أن يكون لهم عزًا أي أنصارًا وشفعاء ينقذونهم ن عذاب الله. كما أوضح تعالى مرادهم ذلك في قوله: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] فتقريبهم إياهم إلى الله زلفى في زعمهم هو عزهم الذي أملوه بهم. وكقوله تعالى عنهم: {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} [يونس: 18] الآية. فالشفاعة عند الموت عند الله عز لهم بهم يزعمونه كذبًا وافتراءً على الله. كما بينه بقوله تعلى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
وقوله في هذه الآية الكريمة {كلا} زجر ورزدع لهم عن ذلك الظن الفاسد الباطل. اي ليس الأمر كذلك! لا تكون المعبودات التي عبدتم من دون الله عزًا لكم، بل تكون بعكس ذلك. فيكون عليكم ضدًا، اي أعوانًا عليكم في خصوكنكم وتكذيبكم والتبرؤ منكم. وأقوال العلماء في الآية تدور حول هذالذي ذكرنا. كقول ابن عباس {ضدًا} اي أعوانًا وقول الضحاك {ضدًا} أي أعداء.. وقول قتادة {ضِدًا} أي قرناء في النار يعلن بعضهم بعضًا، وكقول ابن عطية {ضدًا} يجيئهم منهم خلاف ما أملوه فيؤول بهم ذلك إلى الذل والهوان، ضد ما أملوه من العز.
وهذا المعنى الذي ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: بينه ايضًا في غير هذا الموضع. كقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6]، وقوله تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13-14] إلى غير ذلك من الآيات. وضمير الفاعل في قوله: {سيكفرون} فيه وجهان للعلماء، وكلاهما يشهد له قرآن. إلا أن لأحدهما قرينة ترجحة على الآخر.
الأول- أن واو الفاعل في قوله: {سيكفرون} راجعة إلى المعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله. أما العاقل منها فلا إشكال فيه. وأما غير العاقل بالله قادر على أن يخلق له إدراكًا يخاطب به من عبده ويكفر به بعبادته إياه. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى عنهم: {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 63]، وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَاءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءاء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86] وقوله تعالى: {وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس: 28-29]، إلى غير ذلك من الآيات.